سورة النساء - تفسير تفسير ابن عجيبة

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (النساء)


        


قلت: {فالصالحات} مبتدأ، وما بعده إخبار عنه، وأتى بالفاء المؤذنة بالنسببية والتفريع، وكأنه تعالى يقول: الرجال قوامون على النساء، فمن كانت صالحة قام عليها بما تستحقه من حسن المعاشرة، ومن كانت ناشزة عاملها بما تستحقه من الوعظ وغيره. وكل ما هنا من لفظ (ما) فهي مصدرية. إلا ما قرأ به أبو جعفر: بما حفظ الله بالنصب، فهي عنده موصولة اسمية، أي: بالأمر الذي حفظ الله؛ وهو طاعتها لله فحفظها بذلك، وقيل إنها مصدرية. انظر الثعلبي.
يقول الحقّ جلّ جلاله: {الرجال قوّامون على النساء} أي: قائمون عليهن قيام الولاة على الرعية، في التأديب والإنفاق والتعليم، ذلك لأمرين: أحدهما وهبي، والآخر كسبي؛ فالوهبي: هو تفضيل الله لهم على النساء بكمال العقل وحسن التدبير ومزيد القوة في الأعمال والطاعات، ولذلك خُصوا بالنبوة، والإمامة، والولاية، وإقامة الشعائر، والشهادة، في مجامع القضايا، ووجوب الجهاد والجمعة ونحوهما، والتعصيب، وزيادة السهم في الميراث، والاستبداد بالطلاق. والكسبي هو: {بما أنفقوا من أموالهم} في مهورهن، ونفقتهن، وكسوتهن.
فيجب على الزوج أن يقوم العدل في أمر نسائه، فالمرأة الصالحة القانتة، أي: المطيعة لزوجها ولله تعالى، الحافظة للغيب، أي: لما غاب عن زوجها من مال بيته وفرجها وسر زوجها، حفظت ذلك بحفظ الله، أي: بما جعل الله فيها من الأمانة والحفظ، وبما ربط على قلبها من الديانة، أو بحفظها حق الله، فلما حفظت حقوق الله حفظها الله بعصمته، لقوله عليه الصلاة والسلام: «احفَظَ اللهَ يَحفَظكَ» فمن كانت على هذا الوصف من النساء فيجب على الزوج حُسن القيام بها، ومقابلتها في القيام بما قابلته من الإحسان، وعنه صلى الله عليه وسلم أنه قال «خير النساء أمرأةٌ إن نَظَرتَ إلَيهَا سَرَّتكَ، وإن أمرتها أطَاعَتكَ، وإن غِبتَ حفظتك في مَالِها ونَفسِهَا» وتلا هذه الآية.
وأما النساء التي {تخافون} أي: تتيقنون {نشوزهن} أي: ترفعهن عن طاعة أزواجهن وعصيانهن، {فعظوهن} بالقول، فإن لم ينفع فاهجروهن في المضاجع، أي: لا تدخلوا معهن في لحاف، أو لا تجامعوهن، فإن لم ينفع فاضربوهن ضربًا غير مؤلم ولا شائن. قال صلى الله عليه وسلم: «عَلِّق السَّوطَ حَيثُ يَرَاهُ أهلُ البيت» وعن أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما قالت: (كنتُ رابعَ نسوة عند الزبير بن العوام، فإذا غضب على إحدانا، ضربها بعود المِشجب، حتى ينكسر). والمشجب: أعواد مركبة يجعل عليها الثياب.
{فإن أطعنكم} يا معشر الأزواج، أو عقدن التوبة مما مضى، {فلا تبغوا عليهن سبيلاً} أي: لا تطلبوا عليهن طريقًا تجعلونه سبيلاً لإيذائهن، بل اجعلوا ما كان منها من النشوز كأن لم يكن، (فإنَّ التَّائِبَ مِن الذَّنبِ كَمَن لا ذَنَب لَهُ).
وقال ابن عُيَيْنَة: أي لا تكلفوهن بحبكم. اهـ. وقال الورتجبي: إذا حصل منهن صورة طاعة الرجال فلا يطلب منهن موافقة الطباع، فإن ذلك منازعة للقدر. قال تعالى: {لاَ تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللهِ} [الرُّوم: 30]، وذكر حديث: «الأروَاح جُنودٌ مُجنَّدةٌ».
ثم هدد الأزواج فقال: {إن الله كان عليًّا كبيراً} فاحذروه، فإنه أقدر عليكم منكم على من تحت ولايتكم، أو: إنه على علو شأنه، يتجاوز عن سيئاتكم، فأنتم أولى بالعفو عن نسائكم، أو: أنه يتعالى ويَكبر أن يظلم أحدًا أو يُنقص حقه.
وسبب نزول الآية: أن سَعدَ بنَ الرَّبِيع، وَكَانَ مِن النُقَبَاءِ، لَطَمَ امرأته حَبيبَةَ بِنتَ زَيدِ بن أبي زُهَيرِ، وكانت نَشَزَتَ عَليهِ، فَانطَلَقَ أبُوُها معَهَا إلى رسولِ الله صلى الله عليه وسلم فقال: أفرَشتُهُ كَرِيمَتِي فَلَطَمَها، فقال عليه الصلاة والسلام: «لِتقتَصَّ مِنهُ،» فَانصرَفَت لتقتصّ منه فقال صلى الله عليه وسلم: «ارجعوا، هذا جِبرِيلُ أتَاني وأنزَلَ الله هَذِهِ الآية: {الرجال قوامون على النساء}» إلى آخرها، فقال عليه الصلاة والسلام: «أَرَدنَا أمرًا، وأرَادَ اللهُ أمرًا، والَّذِي أرَاد اللهُ خَير» فرفع القِصَاص. وقيل: نزلت في غيره ممن وقع له مثل هذا من النشوز. والله تعالى أعلم.
الإشارة: الرجال الأقوياء قوامون على نفوسهم قهارون لها، بفضل القوة التي مكنهم الله منها، وبما أنفقوا عليها من المجاهدات والرياضات، فهم ينظرون إليها ويتهمونها في كل حين، فإن صلحت وأطاعت وانقادت لما يراد منها من أحكام العبودية، والقيام بوظائف الربوبية، عاملوها بالإكرام والإجمال، ورفعوا عنها الآداب والنكال، وإن نشزت وترفعت أدبوها وهجروها عن مواطن شهواتها ومضاجع نومها، وضربوها على قدر لجاجها وغفلتها.
وكان الشيخ أبو يزيد يأخذ قبضة من القضبان ويذهب إلى خلوته، فكلما غفلت ضربها، حتى يكسرها كلها، وكان بعض أصحابنا يأخذ خشبة ويذهب إلى خلوته، فكلما غفل ضرب رأسه به، حتى يأتي رأسُه كلَّه مفلول، وبلغني أن بعض أصحابنا كان يُدخل في لحمة رجله سكيناً كلما غفل قلبه، وهذا إغراق، وخير الأمور أوسطها. وبالله التوفيق.


قلت: الشقاق: المخالفة والمساورة، وأضيف إلى الظرف توسعًا كقوله: {بَلْ مَكْرُ الَّيْلِ} [سَبَأ: 32]، والأصل: شقاقًا بينهما، والضمير في {يُريدا} للحكمين، وفي {بينهما} للزوجين، وقيل: للحكمين معًا، وقيل: للزوجين معًا.
يقول الحقّ جلّ جلاله: {وإن خفتم} يا معشر الحكام، أي علمتم خلافَا بين الزوجين ومشاررة، ولم تدروا الظالم من المظلوم، {فابعثوا} رجلين أمينين يحكمان بينهما، يكون أحداهما من أهله والآخر من أهلها، لأن الأقارب أعرف ببواطن الأحوال، وأطلب للإصلاح، فإن بعثهما الحاكمُ أجنبيين صح، وكذا إن أقامهما الزوجان.
وما اتفق عليه الحكمان لزم الزوجين من خُلع أو طلاق أو وفاق. وقال أبو حنيفة: ليس لهما التطليق إلاَّ أن يجعل لهما، وإذا اختلفا لم يلزم شيء، ويستأنفان الحكم، قال ابن جُزَي: ومشهور مذهب مالك: أن الحاكم هو الذي يبعث الحكمين، وقيل: الزوجان، وجرت عادة القضاء أن يبعثوا امرأة أمينة ولا يبعثوا الحكمين، قال بعض العلماء: هو تغيير القرآن والسنة الجارية. اهـ.
فإن بُعِث الحكمان، فإن أرادا إصلاحًا بين الزوجين، واتفقا عليه، وفق الله بينهما ببركة قصدهما، وفيه تنبيه على أن من أصلح نيته فيما يتحراه أصلح الله مبتغاه. {إن الله كان عليمًا خبيرًا} بما في الظواهر والبواطن، فيعلم كيف يرفع الشقاق ويوقع الوفاق.
الإشارة: وإن خفتم، أيها الشيوخ، على صاحبكم منازعة النفس والروح؛ فكانت النفس تجمح به إلى أسفل سافلين، بمتابعة هواها وعصيان مولاها، والروح تجنح به إلى أعلى عليين، بجهاد هواها ومشاهدة مولاها، فابعثوا له واردين قويين، إما شوق مقلق يرحل الروح إلى مولاها، أو خوف مزعج يزجر النفس عن هواها. فإن أراد الله بذلك العبد إصلاحًا لحاله أرسلهما معًا متفقين على تخليصه وارتفاعه، فيتقدم الخوف المزعج ويستدركه الشوق المقلق، فيلتحق بأهل التحقيق من أهل التوفيق، وما ذلك على الله بعزيز، وفي الحكم: (لا يُخرِج الشهوةَ من القلب إلا خوف مزعج، أو شوق مقلق). والله تعالى أعلم.


قلت: الجُنب بالضم: البعيد، يقال فيه: جُنُب وأجنب وأجنبي، وسمي الجُنبُ جُنُبًا لأنه يبعد من المسجد وعن الصلاة وعن التلاوة، و (مختال) أسم فاعل، وأصله: مختيل، بالكسر، من الخُيَلاَء وهو التكبر.
يقول الحقّ جلّ جلاله: {واعبدوا الله} أي: وَحِّدُوه وأطيعوه {ولا تشركوا به شيئًا} جليًا أو خفيًا في اعتقادكم أو في عبادتكم، فمن قصد الحج والتجارة، فقد أشرك مع الله في عبادته، وأحسنوا بالوالدين إحسانًا حسنًا، وهو برهما والقيام بحقهما، {وبذي القربى}، أي: القرابة في النسب، أو الدين {واليتامى} لضعف حالهم، {والمساكين} لقلة ما بيدهم، وقد شكى بعض الناس قساوة قلبه، فقال له عليه الصلاة والسلام: «إن أردتَ أن يلين قلبُك، فأطعم والمسكين وامسح رأس اليتيم، وأطعمه».
{والجار ذي القربى} الذي قّرُب جواره أو نسبه، {والجار الجُنب} الذي بَعُد مكانه أو نسبه، وحَدَّد بعضُهم الجوار بأربعين دارًا من كل ناحية. وقال ابن عباس: الجار ذي القربى: الجار الذي بينك وبينه قرابة، والجار الجنب: الجار من قوم آخرين. اهـ.
قيل يا رسول الله: ما حق الجار على الجار قال: «إن دعاك أجبتَه، وإن أصابته فاقةٌ عُدتَ عليه، وإن استقرضك أقرضته، وإن أصابه خير هنأته، وإن مرض عُددته، وإن أصابته مصيبة عزيته، وإن توفي شهدت جنازته، ولا تستعل عليه بالبنيان لتحجب عنه الريح إلا بإذنه، ولا تؤذه بقُتار قدرك أي: بخارها إلا أن تغرف له منها، وإن ابتعت فاكهة فأهد له منها، فإن لم تفعل فأدخلها سرًا، ولا يخرج ولدك منها بشيء فيغيظ ولده،» ثم قال: «الجيران ثلاثة: فَجَارٌ له ثلاثة حقوق: حق الجوَارِ، وحق القرابة، وحق الإسلام، وجار له حقان: حق الجِوَار، وحق الإسلام، وجَارٌ له حق واحد: وهو المشرك من أهل الكتاب».
{والصاحب بالجنب}، وهي الرفيق في أمر حسن، كتعلم وتصرف وصناعة وسفر، فإنه صحبك بجنبك، وعن علي كرم الله وجهه (أنها الزّوجة)، فيتأكد في حقها الإحسان زيادة على المعاشرة بالمعروف، قال بعضهم: أول قدم في الولاية؛ كفّ الأذى وحمل الجفا، ومعيار ذلك حسن معاشرة الأهل والولد، وقال عليه الصلاة والسلام: «خَيرُكُمْ خَيْرُكُمْ لِنسَائِه، وأنَا خَيْرُكُمْ لِنسَائِي» {وابن السبيل}، وهو الضيف أو المسافر لغرابته، {وما ملكت أيمانكم}، من الإماء والعبيد، وكَانَ آخِرُ كلامِ النّبُي عليه الصلاة والسلام: «الصلاةَ الصَلاةَ وَمَا مَلَكتْ أيمانُكُمْ».
{إن الله لا يحب مَن كان مختالاً} أي: متكبراً، يأنف عن أقاربه وجيرانه وأصحابه ولا يلتفت إليهم، {فخورا} يتفاخر عليهم بماله وجاهه، وما خوله الله من نعمه، فهو جدير أن تسلب منه.
الإشارة: واعبدوا الله، أي: بالقيام بوظائف العبودية، ومشاهدة عظمة الربوبية، وقال بعض الحكماء: العبودية: ترك الاختيار، وملازمة الذل والافتقار. وقيل: العبودية أربعة أشياء: الوفاء بالعهود، والحفظ للحدود، والرضا بالموجود، والصبر على المفقود، وعنوان ذلك صفاء التوحيد، ولذلك قال: {ولا تشركوا به شيئًا} أي: لا تَرَوْا معه غيره، كما قال القائل:
مُذْ عَرَفْتُ الإِلهَ لَم أرَ غَيْرًا *** وكَذَا الغَيْرُ عِنْدنَا ممْنُوعُ
وقال آخر: (لو كُلفت أن أرى غيره، لم أستطع، فإنه لا غير معه حتى أشهده). فإذا حصلت العبودية في الظاهر، وتحقق التوحيد في الباطن، ظهرت عليه مكارم الأخلاق فيُحسن إلى الأقارب والأجانب، ويجود عليهم بالحس والمعنى، لأن الفتوة من شأن أهل التوحيد، ومن شيم أهل التجريد، كما هو معلوم من حالهم، نفعنا الله بذكرهم، وخرطنا في سلكهم. آمين.
قال الورتجبي:الوالدين: مشايخ المعرفة. ثم نقل عن الجنيد، أنه قال: أمرني أبي أمرًا، وأمرني السري أمرًا. فقدمت أمر السري على أمر أبي، وكل ما وجدت فهو من بركاته. اهـ. وذوو القربى هم الأخوة في الشيخ، {واليتامى}: من قصدهم من المتفقرة الجاهلة، {والمساكين}: ضعفاء اليقين من العامة، أمر الله تعالى أهل الخصوصية بالإحسان إليهم والبرور بهم، وهو أن يقرهم في طريقهم، وبحوشهم إلى ربهم.
{والجار ذي القربى} وهو جارك في السكنى وأخوك في النسبة، فيستحق عليك زيادة الإحسان. {والجار الجنب}: من جاورك من العوام فتنصحه وترشده، {والصاحب بالجنب}: من رافقك في أمر من العوام، كَسَفَرٍ وغيره، {وابن السبيل}: من نزل بأهل الخصوصية من الأضياف، فلهم حق الضيافة عليهم حسًّا ومعنًى، {وما ملكت أيمانكم}: ما لكم تصرف عليهم الأهل والبنين والإماء والعبيد، فتقربونهم إلى حضرة الملك المجيد. ثم أمرهم بالتواضع والإقبال على الخاص والعام. فقال: {إن الله لا يحب مَن كان مختالاً فخورًا}. والله تعالى أعلم.

5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | 11 | 12